فصل: الشاهد السادس والعشرون بعد الثمانمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب (نسخة منقحة)



.الخبر عما كان بافريقية من الثوار على صنهاجة عند اضطرابها بفتنة العرب الى أن محا أثرهم الموحدون.

لما كان أبو رجار الورد اللخمي عند اضطرام نار الفتنة بالعرب وتقويض المعز عن القيروان إلى المهدية وتغلبهم عليها قد ضم إليه جماعة من الدعار وكان ساكنا بقلعة قرسنية من جبل شعيب فكان يضرب على النواحي بجهة بنزرت ويفرض على أهل القرى الأتاوات بسبب ذلك فطال عليهم أمره ويئسوا من حسم دائه وكان ببلد بنزرت فريقان أحدهما من لخم وهم من قوم الورد وبقوا فوضى واختلف أمرهم فبعثوا إلى الورد في أن يقوم بأمرهم فوصل إلى بلدهم فاجتمعوا عليه وأدخلوا حصن بنزرت وقدموه على أنفسهم فحاطهم من العرب ودافع عن نواحيهم وكان بنو مقدم من الأثبج ودهمان من بني علي إحدى بطون رياح هم المتغلبون على ضاحيتهم فهادنهم على الأتاوة وكف بها عاديتهم واستفحل أمرهم وتسمى بالأمير وشيد المصانع والمباني وكثر عمران بنزرت إلى أن هلك فقام بأمره ابنه طراد وكان شهما وكانت العرب تهابه وهلك فولي من بعده ابنه محمد بن طراد وقتله أخوه مقرن لشهر من ولايته في مسامرة وقام بأمر بنزرت وسمى بالأمير وحمى حوزته من العرب واصطنع الرجال وعظم سلطانه وقصده الشعراء وامتدحوه فوصلهم وهلك فولي من بعده ابنه عبد العزيز عشر سنين وجرى فيها على سنن أبيه وجده ثم ولى من بعده أخوه موسى على سننهم أربع سنين.
ثم من بعده أخوهما عيسى واقتفى أثرهم ولما نازل عبد الله بن عبد المؤمن تونس وأفرج عنه مر به في طريقه فاستفرغ جهده في قراه وتجمع بطاعته وطلب منه الحفاظ على بلده فأسعفه وولى عليهم أبا الحسن الهرغى فلما قدم عبد المؤمن على أفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة راعى له ذلك وأقطعه واندرج في جملة الناس وكان بقلعة ورغة يدوكس بن أبي علي الصنهاجي من أولياء العزيز المنصور صاحب بجاية والقلعة قد شادها وحصنها.
وكان مبدأ أمره أن العزيز تغير عليه في حروب وقعت بينه وبين العرب نسب فيها إلى نفسه الإقدام وإلى السلطان العجز فخافه على نفسه ولحق ببجاية فأكرمه شيخها محمود بن نزال الربغي وآواه وترافع إلى محمود أهل ورغة من عمله وكانوا فئتين مختلفتين من زاتيمه إحدى قبائل البربر وهما أولاد مدين وأولاد لاحق فبعث عليهم بروكس بن أبي علي لينظر في أحوالهم وأقام معهم بالقلعة ثم استجلب بعض الدعار كانوا بناحيتها وأنزلهم بالقلعة معهم واصطنعهم صاهر أولاد مدين وظاهرهم على أولاد لاحق وأخرجهم من القلعة واستبد بها وقصدته الرجال من كل جانب إلى أن اجتمعت له خمسمائة فارس وأثخن في نواحيه وحارب بني الورد ببنزرت وابن علال بطبربة وقتل محمد بن سباع أمير بني سعيد من رياح وغصت القلعة بالساكن فاتخذ لها ربضا وجهز إليه العزيز عسكره من بجاية فبارز قائد العسكر وفتك به واسمه غيلاس وهلك بعد مدة وقام بأمره ابنه منيع ونازله بنو سباع وسعيد طالبين بثأر أخيهما محمد وتمادى به الحصار وضاقت أحواله فاقتحموا عليه القلعة واستلحم هو وأهل بيته قتلا وسبيا والله مالك الأمور.
وكان أيضا بطبربة مدافع بن علال القيسي شيخ من شيوخها فلما اضطربت أفريقية عند دخول العرب إليها امتنع بطبرية وحصن قلعتها واستبد بها في جملة من ولده وبني عمه وجماعته إلى أن ثار عليه ابن بيزون اللخمي في البحرين على وادي مجردة بازاء الرياحين وطالت بينهما الفتنة والحرب وكان قهرون بن مخنوس بمنزل دحمون قد بنى حصنه وشيده وجمع إليه جيشا من أوباش القبائل وذلك لما أخرجه أهل تونس بعد أن ولاه العامة عليهم ثم صرفوه عن ولايتهم لسوء سيرته فخرج من البلد ونزل دحمون وبني حصنا بنفسه مع الحنايا وردد الغارة على تونس وعاث في جهاتها فرغبوا من محرز بن زياد أن يظاهرهم عليه ففعل وبلغ خبره ابن علال صاحب طبرية فوصل ابن علال يده بصهر منه ونقله إلى بعض الحصون ببلده وهي قلعة غنوش وتظافروا على الإفساد وخلفهما بنوهما من بعدهما إلى أن وصل عبد المؤمن إلى أفريقية سنة أربع وخمسين وخمسمائة فمحا آثار الفساد من جانب أفريقية وكان أيضا حماد بن خليفة اللخمي بمنزل رقطون من إقليم زغوان على مثل حال ابن علال وابن غنوش وابن بيزون وخلفه ولده في مثل ذلك إلى أن انقطع ذلك على يد عبد المؤمن وكان عماد بن نصر الله الكلاعي بقلعة شقبنارية قد صار إليه جند من أهل الدعارة وأوباش القبائل فحملها من العرب واستغاث به ابن قليه شيخ الأريس من العرب وشكا إليه سوء ملكتهم فزحف إليهم وأخرجهم من الأريس وفرض عليهم مالا يؤدونه إليه إلى أن مات وولي ابنه من بعده فجرى على سننه إلى أن دخل في طاعة عبد المؤمن سنة أربع وخمسين وخمسمائة والله مالك الملك لا رب غيره وسبحانه.

.الخبر عن دولة آل حماد بالقلعة من ملوك صنهاجة الداعين لخلافة العبيديين وما كان لهم من الملك والسلطان بأفريقية والمغرب الأوسط إلى حين انقراضه بالموحدين.

هذه الدولة شعبة من دولة آل زيري وكان المنصور بلكين قد عقد لأخيه حماد على أشير والمسيلة وكان يتداولها مع أخيه يطوفت وعمه أبي البهار ثم استقل بها سنة سبع وثمانين وثلثمائة أيام باديس من أخيه المنصور ودفعه لحرب زناتة سنة خمس وتسعين وثلثمائة بالمغرب الأوسط من مغراوة وبنى يفرن وشرط له ولاية أشير والمغرب الأوسط وكل بلد يفتحه وأن لا يستقدمه فعظم عناؤه فيها وأثخن في زناتة وكان مظفرا عليهم واختط مدينة القلعة بحبل كتامة سنة ثمان وتسعين وثلثمائة وهو جبل عجيسة وبه لهذا العهد قبائل عياض من عرب هلال ونقل إليها أهل المسيلة وأهل حمزة وخربهما ونقل جراوة من المغرب وأنزلهم بها وتم بناؤها وتمصرها على رأس المائة الرابعة وشيد من بنيانها وأسوارها واستكثر فيها من المساجد والفنادق فاستبحرت في العمارة واتسعت في التمدن ورحل إليها من الثغور والقاصية والبلد البعيد طلاب العلوم وأرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف والحرف والصنائع بها ولم يزل حماد أيام باديس هذا أميرا على الزاب والمغرب الأوسط ومتوليا حروب زناتة.
وكان نزوله ببلد أشير والقلعة متاخما لملوك زناتة أحيائهم البادية بضواحي تلمسان وتاهرت وحاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين وثلثمائة وهم زاوي وماكسن وإخوانهما فقتل ماكسن وابناه وألجأ زاوي وإخوته إلى جبل شنون وأجازهم البحر إلى الأندلس ثم إن بطانة باديس ومن إليه من الأعجام والقرابة نفسوا على حماد رتبته وسعوا في مكانه من باديس إلى أن فسد ذات بينهما وطلب باديس أن يسلم تيجست وقسنطينة لولد المعز لما قلده الحاكم ولاية عهد ابنه فأبى حماد وخالف دعوة باديس وقتل الرافضة وأظهر السنة ورضي عن الشيخين ونبذ طاعة العبيديين جملة وراجع دعوة آل العباس وذلك سنة خمس وأربعمائة وزحف إلى باجة فدخلها بالسيف ودس إلى أهل تونس الثورة على المشارقة والرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب وعبى عساكره من القيروان وخرج إليه فنزع عن حماد أكثر أصحابه مثل: بني أبي واليل أصحاب معرة من زناتة وبني حسن كبار صنهاجة وبني يطوفت من زناتة وبني غمرة أيضا منهم وفر حماد وملك باديس أشير ولحق حماد بشلف بني واليل وباديس في اتباعه حتى نزل مواطين فحصر السرسو من بلاد زناتة ونزل إليه عطية بن داقلتن في قومه من بني توجين لما كان حماد قتل أباه وجاء على أثره ابن عمه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس واستظهر بهما على حماد ثم أجاز إلى باديس من وادي شلف وناجزه الحرب ونزع إليه عامة أهل معسكره فانهزم وأغذ السير إلى القلعة وباديس في أثره نزل فحاصر المسيلة وانحجر حماد في القلعة وحاصره ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه وهو نائم بين أصحابه ست وأربعمائة فباعت صنهاجة لابنه المعز صبيا ابن ثمان سنين وتلاقوا من أشير وبعثوا كرامة بن منصور لسدها فلم يقدروا واقتحمها عليه حماد واحتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان وبايعوا المعز بالبيعة العامة وزحف إلى حماد بناحية قفصة وأشفق حماد فبعث ابنه القائد لإحكام الصلح بينه وبين المعز فوصل إلى القيروان سنة ثمان وأربعمائة بهدية جليلة وأمضى له المعز ما سأله من الصلح ورجع إلى أبيه.
وهلك حماد سنة تسعة عشر وأربعمائة فقام بأمره ابنه القائد وكان جبارا فاختار أخاه يوسف على المغرب وويغلان على حمزة في بلد اختطه حمزة بن إدريس وزحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين وأربعمائة فخرج إليه القائد وسرب الموال في زناتة وأحس بذلك حمامة فصالحه ودخل في طاعته ورجع إلى فاس وزحف إليه المعز من القيروان سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وحاصره مدة طويلة ثم صالحه القائد وانصرف إلى أشير فحاصرها ثم أقلع عنها وانكفأ راجعا وراجع القائد طاعة العبيديين لما نقم عليه المعز ولقبوه شرف الدولة وهلك سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي ابنه محسن وكان جبارا وخرج عليه عمه يوسف ولحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حماد وبعث محسن في طلبه بلكين ابن عمه محمد بن حماد وأصحبه من العرب خليفة بن بكير وعطية الشريف وأمرهما بقتل بلكين في طريقهما فأخبرا بلكين بذلك وتعاهدوا جميعا على قتل محسن وأنذر بهم ففر إلى القلعة وأدركوه فقتله بلكين لتسعة أشهر من ولايته وولي الأمر سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وكان شهما قرما حازما سفاكا للدماء وقتل وزير محسن الذي تولى قبله وفي أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدم بسكرة لما أحسن بنكثه فحالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه علناس بن حماد فقتلها وأحفظ ذلك أخاها الناصر وطوى على التبييت وكان بلكين كثيرا ما يردد الغزو إلى المغرب وبلغه استيلاء يوسف بن تاشفين والمرابطين على المصامدة فنهض نحوهم سنة أربع وخمسين وأربعمائة وفر المرابطون إلى الصحراء وتوغل بلكين في ديار المغرب ونزل بفاس واحتمل من أكابر أهلها وأشرافهم رهنا على الطاعة وانكفأ راجعا إلى القلعة فانتهز منه الناصر ابن عمه الفرصة في الثأر بأخته ومالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلف المشقة بابعاد الغزو والتوغل في أرض العدو فقتله بتساله سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
وقام بالأمر من بعده واستوزر أبا بكر بن أبي الفتوح وعقد على المغرب لأخيه كباب وأنزله مليانة وعلى حمزة لأخيه رومان وعلى نقاوس لأخيه خزر.
وكان المعز قد هدم سورها فأصلحه الناصر وعقد على قسنطينة لأخيه بلباز وعلى الجزائر وسوس الدحاج لابنه عبد الله وعلى أشير لابنه يوسف وكتب إليه حمو بن مليك البرغواطي من صفاقس بالطاعة وبعث إليه بالهدية ووفد عليه أهل قسنطينة ومقدمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته وأجزل صلتهم وردهم إلى أماكنهم وعقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة ودخل أهل القيروان أيضا في طاعته وكذلك أهل تونس.
وكان أهل بسكرة لما قتل بلكين مقدمتهم جعفر بن أبي رمان خلعوا طاعة آل حماد واستبدوا بأمر بلدهم وعليهم بنو جعفر فسرح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره ووزير بلكين قبله فنازلها وافتتحها عنوة واحتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر وصلبهم ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه أنه لما بلغه خبر بلكين أراد تولية أخيه معمر وشاورهم في ذلك فقتله الناصر وولى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح.
ثم خرج الناصر ليتفقد المغرب فوثب علي بن ركان على تافر بوست دار ملكهم وكان لما قتل بلكين هرب إلى إخوانه من عجيسة واهتبلوا الغرة في تافربوست لغيبة الناصر فطرقوها ليلا وملكها علي فرجع الناصر من المسيلة وعاجلهم فسقط في أيديهم وافتتحها عليهم عنوة وذبح علي بن ركان نفسه بيده.
ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن وحروب ووفد عليه رجالات الأثبج صريخا به على رياح فأجابهم ونهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة وزناتة حتى نزل للأربس وتواقعوا بسببه فغدرت بهم وناتة وجروا عليه وعلى قومه الهزيمة بدسيسة ابن النعز بن زيري بن عطية وإغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر واستباحوا خزائنه ومضاربه وقتل أخوه القاسم وكاتبه ونجا إلى قسنطينة في اتباعه ثم لحق بالقلعة في فل من عسكره لم يبلغوا مايتين وبعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح فعقد بينهم وبينه صلحا وتممه الناصر ثم وفد عليه رسول تميم وسعى عنده بالوزير بن أبي الفتوح وأنه مائل إلى تميم فنكسه وقتله وكان المستنصر بن خزرون الزناتي خرج في أيام الفتنة بيت الترك والمغاربة بمصر ووصل إلى طرابلس فوجد بني عدي بها قد أخرجهم الأثبج وزغبة من أفريقية كما ذكرناه فرغبهم في بلاد المغرب وسار بهم حتى نزل المسيلة ودخلوا أشير وخرج إليه الناصر ففر إلى الصحراء ورجع فرجع إلى مكانه من الإفساد فراسله الناصر في الصلح فأسعفه وأقطعه ضواحي الزاب وريغه وأوعز إلى عروس بن هندي رئيس بسكرة لعهده وولي دولته أن يمكر به فوصل المنتصر إلى بسكرة وخرج إليه عروس ابن هندي وأحمد نزله وأشار على حشمه عند انكباب المنتصر وذوية على الطعام فبادروا مكبين لطعنه وفر أتباعه وأخذوا رأسه وبعث به إلى الناصر فنصبه ببجاية وصلب شلوه بالقلعة وجعلوه عظة لغيره وقتل كثير من رؤساء زناتة فمن مغراوة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس وكانت له بلد لمديه والمرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم وقتل معنصر بن حماد منهم أيضا وكان بناحية شلف فأجلب على عامل مليانة وقتل شيوخ بني ورسيفان من مغراوة فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلا عنهم بشأن العرب فزحفوا إلى معنصر وقتلوه وبعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه مع رأس المنتصر وبعث إليه الزاب أن عمر ومغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم فبعث ابنه المنصور في العساكر ونزل وعلان بلد المنتصر بن خزرون وهدمها وبعث سراياه وجيوشه إلى بلد واركلا وولى عليها وقفل بالغنائم والسبي وبلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد وقطع السبيل وأميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله فبعث ابنه المنصور إليهم بالعسكر وتقبض على أمير بني توجين وأخيه زيري وعمهما الأغلب وحمامة وأحضرهم فوبخهم وقدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد وقتلهم جميعا على الخلاف.
وفي سنة ستين وأربعمائة افتتح جبل بجاية وكان له قبيل من البربر يسمون بهذا الاسم إلا أن الكاف فيهم بلغتهم ليست كافا بل هي بين الجيم والكاف وعلى هذا القبيل من صنهاجة يأتون لهذا العهد أوزاعا في البربر فلما افتتح هذا الجبل اختط به المدينة وسماها الناصرية وتسمى عند الناس باسم القبيلة وهي بجاية وبنى بها قصر اللؤللؤة وكان من أعجب قصور الدنيا ونقل إليها الناس وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين وأربعمائة وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم وشغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهدية ولما أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم وكثر الثوار عليهم والمنازعون من أهل دولتهم فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا وعظم شأن أيامهم فبنى المباني العجيبة المؤنقة وشيد المدائن العظيمة وردد الغزو إلى المغرب وتوغل فيهم.
ثم هلك سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وقام بالأمر من بعده ابنه المنصور بن الناصر ونزل بجاية سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وأوطنها بعساكر وخاصة بعراعر منازل العرب وما كانوا يسومونهم بالقلعة من خطة الخسف وسوء العذاب بوطء ساحتها والعيث في نواحيها وتخطف الناس من حولها السهولة طرقها على رواحلهم وصعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار فاتخذ بجاية هذه معقلا وصيرها دارا لملكه وجدد قصورها وشيد جامعها.
وكان المنصور هذا جماعة مولعا بالبناء وهو الذي حضر ملك بني حماد وتأنق في اختطاط المباني وتشييد المصانع واتخاذ القصور وإجراء المياه في الرياض والبساتين فبنى في القلعة قصر الملك والمنار والكوكب وقصر السلام وفي بجاية قصر اللؤلؤة وقصر أميميون.
وكان أخوه يلباز على قسنطينة منذ عهد الناصر أبيهما وهم بالاستبداد لأول ولاية المنصور فسرح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر وعقد له على قسنطينة وبونة فتقبض على يلباز وأشخصه إلى القلعة وأقام واليا على قسنطينة وكانه وولى أخاه ويغلان على بونة.
ثم بدا له في الخلاف على المنصور وثار بقسنطينة سنة سبع وثمانين وأربعمائة وبعث أخاه ابن موتة إلى تميم بن المعز بالمهدية واستدعاه لولاية بونة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم ونزل بونة مع ويغلان وكاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى وجمعوا العرب على أمرهم.
وسرح المنصور عساكره فحاصروا بونه سبعة أشهر ثم اقتحموها غلابا وتقبضوا على أبي الفتوح بن تميم وبعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة ثم نازلت عساكره قسنطينة واضطرب أحوال ابن أبي يكنى فخرج إلى القلعة بجبل أوراس وتحصن بها ونزل بقسنطينة صليصل بن الأحمر من رجالات الأثبج وداخل صليصل المنصور في أن يمكنه من قسنطينة على مال يبذله ففعل واستولى عليها المنصور وأقام أبو يكنى بحصنه من أوراس وردد الغارة على قسنطينة فتوجهت إليه العساكر وحاصروه بقلعته ثم اقتحموها عليه وقتلوه وكان بنو ومانو من زناتة حيا جميعا وقوما أعزة وكانت إليهم رياسة زناتة وكان رئيسهم لعهده ماخوخ وكان بينهم وبين آل حماد صهر فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر وكانت أخرى عند المنصور.
ولما تجددت الفتنة بينه وبين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة وحشوده وجمع له ما خوخ ولقيه في زناتة فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ماخوخ التي كانت تحته واستحكمت النفرة بين ماخوخ وبينه وسار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة وحرضهم على بلاد صنهاجة فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان وذلك أن يوسف بن تاشفين لما ملك المغرب واستفحل به أمره سما إلى ملك تلمسان فغلب عليها أولاد يعلى سنة أربع وسبعين وأربعمائة على ما يأتي ذكره وأنزلها محمد بن يغمر المسولى وصيرها لعز الملك فاضطلع بأمرها ونازل بلاد صنهاجة وثغورهم فزحف إليه المنصور وأخرب ثغوره وحصون ماخوخ وضيق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين وصالحه وقبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده فبعث ابنه الأمير عبد الله وسمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده وزحفوا إلى مراكش واحتل هو بالمغرب الأوسط فشن الغارة في بلاد بني ومانوا وحاصر الجعبات وفتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك وعفا عن أهلها ورجع إلى أبيه.
ثم وقعت الفتنة بينه وبين ماخوخ وقتل أخوه ولحق ابن ماخوخ بتلمسان وظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره واجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين فأعقبهما محمد بن يغمر صاحب تلمسان.
وولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر فنهض إلى أشير وافتتحها فقام المنصور في ركائبه ومعه كافة صنهاجة ومن العرب أحياء الأثبج وزغبة وربيعة وهم العقل من زناتة أمما كثيرة ونهض إلى غزو تلمسان سنة ست وسبعين وأربعمائة في نحو عشرين ألفا ولقي اسطقسه وبعث العسكر في مقدمته وجاء على أثرهم.
وكان تاشفين قد أفرج عن تلمسان وخرج إلى تساله ولقيته عساكر المنصور فهزموه ولجأ إلى جبل الصخرة وعاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء متوسلة بوشائح الصنهاجة فأكبر قصدها إليه وأكرم موصلها وأفرج عنهم صبيحة يومه وانكفأ راجعا إلى حضرته بالقلعة وأثخن بعدها في زناتة وشردهم بنواحي الزاب والمغرب الأوسط ورجع إلى بجاية وأثخن في نواحيها ودوخت عساكره قبائلها فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران وبني تازروت والمنصورية والصهريج والناظور وحجر المعز وقد كان أسلافه يرومون كثيرا عنها فتمنع عليهم فاستقام أمره واستفحل ملكه.
وقدم عليه معز الدولة بن صمادح من ألمرية فارا أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس فنزل على المنصور وأقطعه تدلس وأنزله بها وهلك سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فولي من بعده ابنه باديس فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأول ولايته وخرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاما عامل بجاية وهلك قبل أن يستكمل سنة وولي من بعده أخوه العزيز وقد كان عزله عن الجزائر وغربه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل وبايعوه وصالح زناتة وأصهر إلى ماخوخ فأنكحه ابنته وطال أمر ملكه وكانت أيامه هدنة وأمنا وكان العلماء يتناظرون في مجلسه ونازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه وأخذوا بطاعته ونازل تونس وصالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز وأخذ بطاعته وكبس العرب في أيامه القلعة وهم غارون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها وعظم عيثهم وقاتلتهم الحامية فغلبوهم وأخرجوهم من البلد ثم ارتحل العرب وبلغ الخبر إلى العزيز فبعث ابنه يحيى وقائده علي بن حمدون من بجاية في عسكر وتعبية فوصل إلى القلعة وسكن الأحوال وقد أمن العرب واستعتبوا فأعتبوا وانكفأ يحيى راجعا إلى بجاية في عسكره على عهد العزيز.
وهكذا كان وصول مهدي الموحدين إلى بجاية قافلا إلى المشرق سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وغير بها المنكر فسعى به عند العزيز وائتمر به فخرج إلى بني وريا كل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه ونزل عليهم بملالة وأقام بها يدرس العلم وطلبه العزيز فمنعوه وقاتلوا دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب.
وهلك العزيز سنة خمس عشرة وأربعمائة فولي من بعده ابنه يحيى وطالت أيامه مستضعفا مغلبا للنساء مولعا بالصيد على حين انقراض الدولة وذهاب الأيام بقبائل صنهاجة واستحدث السكة ولم يحدثها أحد من قومه أدبا مع خلفائهم العبيديين ونقل ابن حماد ان سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور ودائرة في كل وجه فدائرة الوجه الواحد:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
والسطور لا إله إلا الله ومحمد رسول الله يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز بالله الأمير المنصور.
ودائرة الوجه الآخر: بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينار بالناصرية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.
وفي سطوره الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العباسي.
ووصل سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة إلى القلعة لافتقادها ونقل ما بقي بها وانتقض عليه بنو زرا بن مروان فجهز إليه الفقيه مطرف بن علي بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة وتقبض على ابن مروان وأوصله فسجنه بالجزائر إلى أن هلك في معتقله وقيل قتله وبعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها ونازل في وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه ورجع إلى بجاية وتغلب النصارى على المهدية وقصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر وأنزله بها مع أخيه القائد حتى إذا زحف الموحدون إلى بجاية وفر القائد من الجزائر وأسلمها قدموا الحسن على أنفسهم ولقي عبد المؤمن وأخرج يحيى بن العزيز أخاه سبع للقاء الموحدين فانهزم وملك الموحدون بجاية.
وركب يحيى البحر إلى صقلية يروم الاجازة منها إلى بغداد ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارس ونكر عليه سوء صنيعه وإخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسنطينة فنزل على أخيه الحسن فتخلى له عن الأمر وفي خلال ذلك دخل الموحدون القلعة عنوة ودخل حوشن بن العزيز وابن الدحامس من الأثبج معه وخربت القلعة ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع وأربعين وخمسمائة ونزل قسنطينة واشترط لنفسه فوفى له ونقله إلى مراكش فسكنها ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته وأما الحارث صاحب بونة ففر إلى صقلية واستصرخ صاحبها فصارخه على أمره ورجع إلى بونة وملكها ثم غلب عليها الموحدون وقتلوه صبرا.
وانقرض ملك بني حماد والبقاء لله وحده ولم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم وهم لهذا العهد في عداد الجند ولهم أقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده والله وارث الأرض ومن عليها.